-مصطفى الزِّيـــن : --------------------------------------------------

------------------مســرودات بألــوان الطفـــولة:-------------------------
11-الكُتْبُ أنْصَعُ ألْوانـاً منَ الْكذِب
كان ابن عمتي الكلونيل يعدني أن متى أحرزت شهادة الباكلويا ، ألحقني بالأكاديمية الملكية العسكرية للطلبة الضباط..رغم أني لم أكن متحمسا لذلك ، ولا أتصور نفسي عسكريا أبدا .وكان أبي، العسكري المتقاعد، لا يوافق أبدا على دخولي ذلك الميدان..وينصحني أن أبحث عن مجال آخر مهما يكن..ولا شك أنه كان يستحضر مصير ابن باب تازة الطيار المفضل ابن الحاج المگوتي -الذي تقع دارهم مقابل مجزرتنا تماما-. ذلك الشاب الذي يقبع ، منذ سنوات في سجن سري رهيب إسمه "تازممارت"..كما يستحضر أبي أجواء الحرب في الصحراء المغربية ضد جبهة الپولزاريو الإنفصالية، وضحايا تلك الحرب..بل إن أبي كان أصبح يكره كل ماهو عسكري مذ تقاعد ، ولا يمكن أن يلبس أي شيء في تلك الألوان الزيتية او الكاكية ،ولا يريد لأي من أبنائه أن يلبسها ، وأن يلذغ أو يلسع من نفس الجحر كما لذغ ولسع..
سألني، قبل أن أعود مرة ثانية إلى فاس ، ماذا اخترت ؟، وما طبيعة العمل الذي ستفضي إليه دراستي ؟ قلت له مختصرا: سأكون ، بعد خمس سنوات، أستاذا-إن شاء الله- كما كان ابن عمتي الآخر ، قبل أن تغريه المحاماة ، فورثت عنه مكتبة الأستاذ..
***********
كان علي ،كي أفي بما وعدت به أبي(أنا لا أحب لفظ الوالد أو الوالدة، وأستهجن من يخاطب أبويه بهما وأعتبر ذلك قلة ذوق..) ؛كان علي أن أعود إلى فاس ، وإلى كلية الآداب ، بظهر المهراز، بعد ما يقارب عشرة أيام ، من السفرة السابقة التي لم أعد منها سوى بتقديم طلب التسجيل في واحدة من ثلاث شعب ، جعلتها على الترتيب: اللغة العربية وآدابها- الفلسفة- التاريخ والجغرافيا..؛ كان علي أن أعود إلى فاس، في نفس أجواء رمضان والرمضاء من اتقاد الحر والجفاف (يوليوز1980).. منطلقا ، مرة أخرى، من تطوان.
وما إن وصلت ، حتى توجهت إلى كلية الآداب..لأعلم أني لم أُقبل في شعبة الأدب العربي، وإنما في التاريخ والجغرافيا ؛ كما علمت ، من خلال صديقي ، أن كلية الرباط هي الأخرى ، لم تسمح لي بولوج شعبة الأدب العربي ، كما كنا نسميها، وإنما يمكنني أن ألج شعبة الفلسفة..وأنا لا أريد بديلا عن دراسة اللغة العربية وآدابها..فأجلت التسجيل..وكان ينقصني وثيقة الإعفاء من الخدمة العسكرية ؛ والملف إنما كنت سلمته إلى قريبي الكولونيل لينضيه، ويوافيني به إلى تطوان..وهكذا فكرت أن أتوجه إليه بسكنه بالدار البيضاء .. أن أفطر هناك وأبيت ببيته.. فعدت إلى محطة بوجلود ، واستقليت حافلة شعبية جدا نحو البيضاء التي لم يسبق لي أن زرتها..، وليس معي سوى وريقة عليها عنوان قريبي الضابط هناك..كنت مرهقا من التعب و مغالبة النوم، الذي سرعان ما غلبني ، حتى صرت أميل على كتف الجالس على يميني، فأصحو معتذرا.. ولكن الرجل الطيب سمح لي أن أتكأ عليه وأنام ،دون حرج، فاتكأت ونمت ما شاء الله..
نزلنا من الحافلة، مع رفع آذان المغرب تماما ، توجهت إلى ما لا أذكر إن كان مطعما أو مجرد مقهى، وتناولت وجبة الإفطار على سطيحته..واسترحت قليلا..ثم أخذت طاكسي صغيرة إلى عنوان قريبي ..ولكني تفاجأت أن علمت أنه سافر ظهرَ ذلك اليوم، مع أسرته، إلى تطوان.. لم أشعر إلا بقليل من القلق..إذ يمكنني السفر ، في تلك الليلة إلى تطوان..فخرجت أمشي على غير هدى ..ولكن قدميَّ ساقتاني إلى محطة (الساتيام) من دون قصد..فوجدت الحافلة إلى تطوان على وشك الانطلاق
..فانطلقنا ، وأنا اتمدد على صف الكراسي الخلفية.. تعشينا ، أو تسحرنا ، بالعرائش.. وفي الخامسة صباحا ، كنت ببيت عمتي ، أي في نفس التوقيت الذي كنت انطلقت فيه أمس ؛ عدت دون أن أحقق أي شيء، وحتى الملف الذي أردت أن أستبق إليه بالبيضاء كان بالإمكان أن انتظره بتطوان دون عناء ..
********
مثلما هيأت لي الأقدار بيت عمي الصغير بالشاون ،وهيأت لي بيت عمتي الكبير بتطوان ، و بيت بنت عمتي حيث "لوليتاي" ، الحبيبة التي ملكت علي قلبي وحواسي..؛ أبت تلك الأقدار إلا أن تهيء لي أهلا وبيتا بفاس ..؛ فها هو جارنا التازي الذي جمعت بيننا وبين بيته وأهله عشر سنوات أو أكثر من جوار تعمق إلى ما يشبه آصرة الدم والقرابة ، ينتقل للعمل كاتبا بعمالة فاس..وزوجته الفاضلة كانت بمثابة خالتي، أو أختي الكبرى -وليس لهما سوى طفل صغير- يسبقونني،أ واسط شهر غشت، من نفس الصيف، إلى الاستقرار بفاس ويحيلونني على سكنهم هناك الذي يوجد على بعد خطوتين من محطة بوجلود، في زقاق مقابل لباب حديقة "جنان سبيل" للذاهب باتجاه "مولاي عبد الله" و"فاس جديد"..وهكذا عندما عدت إلى فاس لم أجد كبير عناء في العثور على بيتهم ،والنزول عليهم ضيفا ..ربما كان ذلك في أواسط شهر شتمبر( سأستمتع بالمطالعة في أرجاء حديقة جنان سبيل الغناء ، وكذا بمقهى الناعورة القريب) ..وكانت أزمة التعليم على وشك الإنفجار ، مرهونة بنتائج مناظرة إفران التاريخية ..التي زحزحت فعلا الوضع المأزوم، وألغت قرار التسجيل بالجامعة تبعا لتلك الطلبات وشكل قبولها التحكُّمي التعسفي ، وسمحت لنا،نحن الطلبة، بالتسجيل الحر في الشعب حسب الاختيار..فسجلت نفسي في شعبة اللغة العربية وآدابها،كما كنت أحب..
غير أني عدت متأخرا، لأجد نفسي أمام أزمة السكن ، وادعاء امتلاء الحي الجامعي عن آخره، أو ربما إدعاء إدارته ذلك ؛ لأن آخرين غيري كانوا يجدون أماكن شاغرة بوسيلة من الوسائل ، مما ليس متاحا لي ،أنا ابن المخزني المتقاعد الأعزل..ولكني تمكنت ، بعد شهر أو أكثر ، من حجز سرير .. ولكن في ملحق للحي الجامعي يوجد في الجهة الأخرى من المدينة، في حي "عين قادوس" ملاصقا للسجن الشهير ، يوليه ظهره، لا تقدم فيه ، وفي مقصفه، سوى وجبة الفطور.. غير أني ، في الموسم الثاني، تمكنت من الحصول على سرير بالغرفة رقم257، بالطابق الثالث من حي ظهر المهراز، بفضل السيدة كاتبة مدير الحي الجامعي التي كانت جارتي ،تقطن بالغرفة جانب غرفتي بحي عين قادوس ؛ كانت وعدتني ،فأوفت بعهدها، فأصبحت في تلك الغرفة، مع صديقي عبد الكريم، وهو زميلي بالشعبة،وزميلي سابقا بتطوان، وابن حومة باب السوق.. ومعنا ،بالغرفة،صديق من البيضاء، وآخر من بني ملال..
ومن جميل الصدف، وأنا ، من قبل ، بمكتب شؤون الطلبة لاستخراج شهادة التسجيل، للإدلاء بها في ملف طلب للسكن بحي/سجن عين قادوس، أن إلتقيتُ صديقي خالد زميلي بقسم الباكلوريا بتطوان، لم يكن حالفه الحظ في النجاح، وجاء إلى فاس، حيث تقيم أمه وإخوته، كي يعيد السنة الدراسية، كان يرافق زوج أخته أو خطيبها، الذي جاء يسحب شهادة إجازته..خالد كان ابن رئيس دائرة باب تازة ..كان في الصيف الأسبق ، يراني بباب تازة ،ويحييني من بعيد، دون أن نتعارف ،ولكنه تفاجأ بقدر ما تفاجأتُ ، عندما جاء إلى ثانوية جابر بن حيان، فوجدنا نفسينا زميلين فصديقين حميمين..ها هو بفاس يدعوني ضيفا إلى بيتهم بحي الدكارات..ويضع بيتهم رهن إشارتي ،ضيفا متى شئت..كان أبوه يقيم بباب تازة، مع زوجته الجديدة ..بينما هم أولاده الستة يقيمون بفاس مع أمهم السيدة الشعبية الطيبة الكريمة..يسصبح أبو خالد، بعد بضع سنوات باشا الشاون ..أما صديقي خالد الطيب الودود ، فإنه ، للأسف ،سيلقى حتفه في حادثة سير، رحمة الله عليه..
***********
كنت أعتقد أن السكن بعيدا عن ظهر المهراز وعن كلِّيتي سيسب لي متاعب ومصاعب ، مما يتطلبه التسابق على المقاعد في مدرجات المحاضرات وقاعات الدروس، وبخاصة وأن عدد طلبة سنة أولى قد قارب أربعمائة طالب ، و ربما أكثر..ولكني سرعان ما اكتشفت أن لا داعي للتهافت ، وأن حضور محاضرات ودروس كثير من الأساتذة يكاد يكون كعدمه، وأن يكفيني معرفة البرامج والمقررات، واقتناء مطبوعات بعض الأساتذة المرتزقين ، والتي لا تزيد على أن تكون فصولا منقولة من كتب ، مسلوخة سلخا..واكتشفت أن الأساتذة الأكفاء ، هناك ، عملة نادرة ، بعدما رحل إلى الرباط أمثال الدكتور محمد برادة ، والشاعر الأستاذ أحمد المعداوي المجاطي ، والدكتور نجيب البهبيتي..وحسن حنفي وغير هؤلاء.. وعلمت أن أحد الأساتذة كان يملي محاضراتة بنصها منذ عشر سنوات أو أكثر ، لا يزيد ولا ينقص حرفا، وأن أستاذا شابا عاد حديثا من فرنسا ، بعدما ناقش أطروحته هناك ، كان يحدثنا ، فيما يُفترض أنه مادة فقه اللغة ، عن كتاب "الإستشراق" حديث الصدور للفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد- وكان لم يترجم بعد- بل كان يملي علينا فقرات في تقديمه ونقده ؛ وجدت أنه إنما يملي علينا من كتيب لصادق جلال العظم ،وهو بعنوان: "الاستشراق.. والإستشراق معكوسا" ،وجدته معروضا "بمكتبة الفكر الرائد" التي كانت لأستاذ سوري بشارع عبد الله الشفشاوني..وأن أستاذا آخر للسانيات قادما ، هو الآخر ، من فرنسا ،كانت تسبقه فضيحة السرقة الأدبية.. بل إني اكتشفت ، في السنة الثالثة أن المطبوع الذي باعنا أستاذنا في التاريخ ، موقعا باسمه ، إنما هو جزء من مطبوع أكبر كان باعه المصري الشهير المؤرخ الدكتور محمود إسماعيل إلى طلبته ، في تخصص التاريخ..فلم يسقط من عيني ، فقط ، أستاذُنا المرتزق، وإنما أيضا الدكتور محمود إسماعيل ،على جلال قدره ؛لأنه ،ولا شك ،كان يأخذ عمولته من أستاذنا التاجر المرتزق..
***********
وأذكر مرة ، ربما في السنة الثالثة ، أن كنا على موعد في امتحان الشفوي-بعد النجاح في الكتابي- مع أستاذ درسنا، زعماً، نظرية الأجناس الأدبية، و باعنا ابتزازا مطبوعه ؛ لكني لم أكتف بمطبوعه ، بل ذهبت إلى مصادره غير المعلنة ؛ أي إلى بعض الكتب التي تناولت النظرية ،والأنواع ، الأدبية ، فتهيأت..ولما جلست أمامه ، يوم الامتحان ، طرح علي، فضيلته، سؤالا ،أجبت عليه كما تهيأت مستعرضا الاختلافات في الموضوع..أنصتَ، ربما، ولما سكتت مستعدا لسؤال ثان ، قال لي: مالك؟ أراك لم تحفظ! قلت : وما عساني أحفظ أو لا أحفظ، يا أستاذ؟ قال: ما أمليته عليكم!..قلت :"يا أستاذ،
أ أجبت على سؤالكم؟ أم أني لم أجب؟ إني قد قرأت ما أعطيتنا، وقرأت من كتب أخرى.." .كنت مصمما على حقي في أن لا أحفظ أو أنقل أو أن أستظر ، وألا أستكين لهذا النقال الحافظ المحفظ ،ولو أدى ذلك إلى رسوبي؛ نظر إلي قليلا،وقال: هيا تفضل..انصرف..
ومثل هذا كثيرون ، ممن كانوا يكرسون قيم الكسل والحفظ والنقل والاستكانة والخضوع .ولولا أني كنت أحصل علامات جيدة في امتحانات الكتابي، لعطبوني وأسقطوني، لا لكون الشجاعة الأدبية كانت تخونني، بل لأنها كان تجرئني على ما كانوا يعتبرونه وقاحة وتجرؤا عليهم..
رأيت ألا معول على مثل هؤلاء الأساتذة ، وإنما علي أن أعتمد على التحصيل الذاتي..كما كنت فعلت في المرحلة الثانوية..فلم أهتم بكراسات المحاضرات والدروس ، مما كان يتناقله الطلبة ، ويكادون يحفظونه عن ظهر قلب ، فيردون البضاعة الى سارقيها أو مغتصبيها القراصنة، فينجحون..رأيت أنني يمكنني أن أنجح بأقل مجهود ، وأن أخلص للكتب و الكتاب..ولولعي الشديد باقتناء الكتب والمجلات..فكنت أقضي من الوقت في تصفح ما كان يعرضه بعض الباعة أو الكتبيين على فَرْشاتهم الأرضية في ماكان يسمى "الحرم الجامعي" أكثر مما كنت أقضيه من وقت في المدرجات أو القاعات..حتى توثقت علاقتي ببعض أولائك الباعة الكتبين ومنهم حسن الحلوي الذي أصبح،في ما بعد ، أشهر باعة الكتب المستعملة بسوق الصفيح قرب قنطرة الليدو فيما يسمونه "الحفرة"..كنت ، في تلك السنوات من النصف الأول من الثمانينات ، أزوره بمحله أو دكانته الصغيرة، بباحة تنعطف إليها من قاع الطلعة الصغيرة، باتجاه ضريح مولاي إدريس..فيعطيني سلما أصعد به إلى أعلى الرفوف ، أختار من الكتب ما يروق لي ، فأدفع ثمنها..وأذهب فرحا بغنيمتي ، كما كنت أطوف على مكتبات الطلعة الصغرى ،وبالخصوص مكتبتي الأخوين القادري ..
**********
ولكني كنت حريصا على حضور محاضرات ودروس بعض الأساتذة الأفذاذ ، المعلمين الحقيقين، وعلى رأسهم العراب/ الأب الروحي، الأستاذ المعلم الدكتور حسن المنيعي ، الذي رحل عنا قبل أيام- رحمه الله -أستاذ الأدب والنقد الحديث ،والمسرح، والنقد المسرحي..الذي تشبعت منه بروح ودقة العربية الحديثة المعاصرة التي لا تقصُر بإمكانياتها عن مضاهاة اللغات الكبرى العالمية، وقد خبر أستاذنا الجليل مجال الترجمة ،وبخاصة من الفرنسية إلى هذه العربية الحداثية الأصيلة الرشيقة البليغة ،البعيدة عن التقعر أو الترهل والإدعاء..؛وأخذت عنه ذلك الولع بمتابعة جديد الأجيال الحديثة، سواء في الرواية أو القصة القصيرة أوالمسرح نصوصا وتنظيرات..وحاولت أن أتشبع منه بقيم التواضع والتسامح ، وبروح النقد وملكته..
وكان يدهشني ، أيضا ، ذاك السوداني الطيب، الدكتور عبد الله الطيب ، الذي يغرف ، حقا، من بحر ؛ كان يدهشني باستطراداته الثرية ، وبجولاته ما بين التراث العربي ،والنقد والأدب الغربي الحديث..؛ وذاك السوري، المعلم حقا، لمدارس اللغة العربية ونحوها وصرفها، الأستاذ الدكتور فخر الدين قباوة.. وثلة من الذين أدخلونا ميادين الشعر الأموي والعباسي والأندلسي ،و مضمار البلاغة في مقدمتهم الأستاذ الدكتور محمد العمري.. ولا أنسى ، طبعا ، الأستاذ فقيه العربية الكبير اللساني الدكتور أحمد العلوي الذي درسنا نظرية النظم الجرجانية ،وما وزع علينا مطبوعه إلا بعدما لم يأل جهدا في البسط والمقاربة والشرح والتفسير..
فبقدر ما كنت تلميذا لهـؤلاء الأساتذة الأفاضل؛كنت أيضا تلميذا، تعلمت أكثر من أمثال طه حسين ،ونجيب البهبيتي-الذي ربما ضيع الكثير من جهوده في الحقد على أستاذه طه ونقده - وتلميذا لإحسان عباس ومحمد مندور وعز الدين إسماعيل وأدونيس ومحمد برادة وعبد الله كنون، وآخرين من سادة كتب النقد وتاريخ الأدب، والأدب والإبداع..
**********
لم تكن الجامعة ، بمدرجاتها وقاعاتها ومكتبتها الضخمة ، وأساتذتها ، وبالخصوص، كلية الآداب ؛ هي ما يكون الطلبة أو يصنع ويصقل عقولهم وشخصياتهم ، وإنما كان الفضل في ذلك إلى أجوائها ..؛ إلى ذلك الفضاء من التعارف والتجانس والتعاون والتكافل... بين الطلبة القادمين من جل مناطق المغرب من الشمال ، والجنوب، والشرق والغرب.. من البيضاء وطنجة وتطوان ووجدة وبني ملال وخريبكة . ومن بلدان إفريقية مختلفة.. في أجواء الحي الجامعي ، و المطعم الجامعي أو (الريسطو ).. في هذا الفضاء ، وفي هذه الأجواء ، إلتقينا نحن القادمين من جابر بن حيان بتطوان بزملائنا السابقين بالمشيشي وبداخليتها ، ممن وفدوا على كلية العلوم أو على كلية الشريعة أو غيرها ، وممن سبقونا أو ممن لحقونا ..، وقد كانت تضيق علينا حافلة بوخرطة ،بسائقها العزيز السيد عبد العزيز، ومساعده محمد الصحراوي الودود الأمين ، في رحلاتنا بين الذهاب إلى فاس ، و في الإياب منها إلى الشاون..؛ كما كان ما يكوننا ويصقل شخصياتنا ووعينا هو شيوع قيم الرفض والنقد ،و التياسر غير المشروط ..بما فيه من غلو الإديولوجيا، أو الإديولوجيات، والصراع ، والوعي بقضايا الوطن ، وقضايا العالم الثالث وفلسطين..ولكن قبل لوثة العنف والاقتتال الذي كان يتم تهييئه لينطلق منذ منتصف تلك العشرية.. ليشتد ويضرى حارقا الأخضر والأحمر واليابس..
ولم تكن تلك الحلقيات ، التي تعقد جدالا وسجالا، في ساحات الحرم الجامعي ، و لا كان منشطوها ،أبدا، مما يثير إعجابي ، بقدر ما كانت تثير استهجاني وسخريتي من الوعي المزيف والنقل و والحفظ والاستظهار الببغاوي،والشطط الإديولوجي، واستباق التكوين إلى إدعاء التنظير..ولكني كنت لا أفوت أي مناسبة للتظاهر ضد كل السياسات والإجراءات التي كانت تنهجها الدولة المخزنية ، ضد مصالح الطلبة والطبقات المستضعة، أو التي تفرط في مبادئ الأمة والوطن الكبير..
صفرو-الأربعاء 18 نونبر 2020 .